"في ظلال القرآن" لسيد قطب: هل اختبأ التكفير خلف سحر البيان؟

 

سيد قطب


"في ظلال القرآن" لسيد قطب: هل اختبأ التكفير خلف سحر البيان؟

بمجرد الاطلاع على مقدمة تفسير "في ظلال القرآن" لن يحتاج الأمر إلى كبير عناء للوصول إلى الغاية التي يرمي إليها سيد قطب من كتابه؛ فهو لا يمهل القارئ سوى فقرتين صغيرتين قبل أن يصدمه بكلمات لم تُعهد في تفسير آخر، يفصح فيها عن مراده دون أي مواربات.. ".. وعشت - في ظلال القرآن - أنظر من علوّ إلى الجاهلية التي تموج في الأرض، وإلى اهتمامات أهلها الصغيرة الهزيلة.. أنظر إلى تعاجب أهل هذه الجاهلية.."!


إنّ المضيّ مع سيد قطب في "ظلاله" سيكشف أنّ هذه الكلمات ليست فلتة قلم، أو مجازاً عابراً، بل تكاد تكون هي المحور الرئيس الذي سيجيّر له تفسيره لآيات القرآن الكريم متى استطاع إلى ذلك سبيلاً، فلن يفوّت أي فرصة ليكرّس مفهومه لـ"الاستعلاء على جاهلية" هذا الزمان، التعبير الذي هرب إليه معبراً عن مكنونات نفسه التي لا يُفهم منها إلا تكفير معظم المسلمين باسم ترك حاكمية الله، بعد أن مرّ بمجموعة عاصفة من التحولات في حياته استقر فيها أخيراً بالسخط على هذا المجتمع الذي "هجر طريق الحق".



لا يمكن فهم سيد قطب، خاصة في السنوات الأخيرة من حياته، دون التعريج على التقلبات الفكرية التي عاشها الرجل، وانعكست على كتاب "في ظلال القرآن" نفسه، الذي مرّ بعملية تنقيح مقصودة لآرائه السابقة، بل والتبرؤ منها كما صرّح، حتى وصل بالكتاب "تقريباً" إلى الصورة التي يريدها، بعدم مجاراة الجاهلية في شيء من تصوراتها، ولا في شيء من أوضاعها، كما يقول في آخر كتبه (معالم في الطريق) الذي يعد خلاصة "ظلاله": "لا بد أن نَثبُت أولاً، ولا بد أن نستعلي ثانياً، ولا بد أن نُري الجاهلية حقيقة الدرك الذي هي فيه بالقياس إلى الآفاق العليا المشرقة للحياة الإسلامية التي نريدها".


مرّ سيد قطب بعدة مراحل في حياته، بدأها شاعراً رومانسياً وناقداً لامعاً (أقرب إلى الليبرالية) تغلب عليه الروح الوطنية والنزعة القومية الواضحة، ثم اتجه بحكم تأثره بأستاذه العقاد إلى الكتابة في الإسلاميات، ثم ليحسم أمره إلى الإسلام الحركي بعد انضمامه إلى جماعة الإخوان المسلمين العام 1953.

ورغم هذه التغيرات الحدّية، إلا أنّ ثمة مزاجاً مشتركاً ينتظم شخصيته وانعكس على كل كتاباته رغم تباينها، وهو "الاستعلاء" والاعتداد بالنفس الذي جعله في معركة دائمة مع من حوله، غير عابئ بالعواقب.

تمثل رحلة "في ظلال القرآن" تحولات المرحلة الإسلامية في حياة سيد قطب؛ التي بدأت بالتركيز على الجانب الفني والأدبي في القرآن الكريم، كما في كتابيه "التصوير الفني في القرآن" في العام 1945، و"مشاهد القيامة في القرآن" العام 1947، وقد عمل في كليهما على إظهار نماذج من الصور الفنية الرفيعة في كتاب الله بأسلوب أخّاذ غير مسبوق موظِّفاً قلمه الذي صقلته قراءاته وحصيلته النقدية الفريدة.



وبعد سفره إلى الولايات المتحدة في نهاية الأربعينيات أخذ مزاجه الإسلامي يتبلور حركياً بالتدريجي، فظهر له "العدالة الاجتماعية في الإسلام" في العام 1949، و"معركة الإسلام والرأسمالية" و"السلام العالمي والإسلام" في العام 1951.

في بداية الخمسينيات أخذت علاقته بجماعة الإخوان المسلمين تتوثق باعتبارهم "حقلاً صالحاً للعمل للإسلام على نطاق واسع في المنطقة كلها بحركة إحياء وبعث شاملة"، وأخذ نَفَسه الإسلامي يأخذ طابعاً أكثر راديكالية، ومن أهم المؤلفات التي أصدرها في تلك الفترة، "هذا الدين"، و"الإسلام ومشكلات الحضارة"، و"خصائص التصور الإسلامي"، وتعد الطبعة المعدلة من "العدالة الاجتماعية في الإسلام" أبرز علامات التغير الجديد الذي أصابه بعد الفصل الذي أضافه إليه ليحمل أفكاره الجديدة (حاضر الإسلام ومستقبله)، وقد صدّر هذه الطبعة بإهدائه الشهير الذي فُهم منه بأنّه تلميح لجماعة الإخوان رغم نفيه لذلك لاحقاً: "إلى الفتية الذين ألمحهم في خيالي قادمين يردون هذا الدين جديدا كما بدأ.. إلى هؤلاء الفتية الذين يجاهدون باسم الله، في سبيل الله، على بركة الله أهدي هذا الكتاب".


وفي هذه المرحلة أعاد قطب نشر كتابه "في ظلال القرآن" بعد أن أجرى عليه تعديلات وتنقيحات جوهرية لتتوافق مع ما استقر عليه من أفكار وآراء انقلب فيها على معظم ما كان يؤمن به طيلة حياته السابقة.

وُلد كتاب "الظلال" أواخر العام 1950 من خلال زاوية تحت عنوان (في ظلال القرآن) في مجلة "المسلمون"، التي كان يصدرها زوج ابنة الإمام حسن البنا والسكرتير الشخصي له  سعيد رمضان (والد الداعية الإخواني الشهير طارق رمضان).

لقيت هذه الكتابات قبولاً واستحساناً واسعاً من القراء، مما دفع مكتبة دار إحياء الكتب العربية بالقاهرة للتعاقد مع سيد قطب لإصدارها في كتاب مستقل، فتوقف عن نشر سلسلته في المجلة عند الحلقة السابعة، وظهر الجزء الأول من الكتاب في تشرين الأول (أكتوبر) 1952، وواظب على نشر تفسير جزء واحد من أجزاء القرآن الثلاثين شهرياً وفق اتفاقه مع دار النشر ليتم 16 جزءاً حتى كانون الثاني (يناير) 1954، قبل اعتقاله والحكم عليه بـ15 عاماً إثر حادثة المنشية، لكنه تابع إصدار بقية الأجزاء من سجنه الذي لم يكمل فيه محكوميته لخروجه بعفو صحي في أيار (مايو) 1964. 


ورغم ما روّجه الإخوان من تعرض سيد قطب للتعذيب خلال فترة سجنه الأولى، فإنّ الوقائع تفند هذه المزاعم قطعاً، بل يمكن القول إنّ العكس تماماً هو ما حصل، بدليل صدور الطبعة الأولى من الكتاب قبل قرابة 5 أعوام من الإفراج عنه؛ ذلك أنّ السلطات سمحت له بحرية الكتابة رغم أنّ لوائح السجون كانت تمنع ذلك، والأغرب، وفق ما يقول خالد عكاشة في كتابه "أمراء الدم" الصادر العام 2014، أنّ "الرئيس جمال عبد الناصر أصدر قراراً بتعيين الشيخ محمد الغزالي، وكان من كبار موظفي وزارة الأوقاف آنذاك، لتيسير أحوال سيد قطب فيما يتعلق بإمداده بما يشاء من الكتب، ومراجعة ما يكتبه مع الناشر قبل أن تأخذ طريقها إلى الطبع".



وبالمناسبة يذكر محمد عمارة أنّ الشيخ الغزالي، الذي اعتقل لاحقاً لأقل من سنة العام 1965، كان هو أول من دعا سيد قطب للانضمام إلى جماعة الإخوان المسلمين، وكان ذلك في العام 1950 بعد أن توطّدت علاقة الرجلين، لكنه قال له: "الأفضل أن أكون بعيداً"!

ألقي القبض على  سيد قطب مرة ثانية في آب (أغسطس) 1965 لدوره في تشكيل تنظيم سري "منفصل عن الجماعة" لقلب نظام الحكم وتفجير القناطر الخيرية، وفق شهادة فريد عبد الخالق مرافق حسن البنا وعضو الهيئة التأسيسية ومكتب الإرشاد الأسبق في الجماعة، في الحلقة الأخيرة من لقاء الجزيرة معه في برنامج شاهد على العصر التي بُثت بتاريخ 14/3/2004.

حتى العام 1965 أكمل سيد قطب تنقيح تفسير أول ثلاثة عشر جزءاً من القرآن وتوقف بسبب اعتقاله الثاني عند بداية تفسير سورة الحجر، وكان أصدر الجزء الأول من الطبعة المنقحة الأولى مطلع العام 1960.

وبعد إعدامه بتاريخ 29 آب (أغسطس) 1966، ظهرت الطبعة الثانية كاملة وقد تضمنت هذه التنقيحات وما تم حذفه من الطبعة الأولى من اللجنة المعنية بمراقبة الكتاب كمقدمة سورة الفجر، ومقدمة سورة البروج التي ضمنها المؤلف أيضاً كتابه "معالم في الطريق" تحت عنوان "هذا هو الطريق".

في العام 1978 ظهرت "الطبعة الشرعية السابعة" التي قدم لها شقيقه محمد قطب، وذلك في ستة مجلدات من الحجم الكبير عن "دار الشروق" اللبنانية، وتضمنت إضافات وتنقيحات تركها المؤلف ونشرت لأول مرة بعد موته، وتعد هذه الطبعةَ التي استقر عليها الكتاب في رحلته الطويلة.


0 Comments