حسن البنا وتأسيس السرية العسكرية

 

حسن البنا

حسن البنا وتأسيس السرية العسكرية


بدأ البنا التأصيل لتأسيس الجهاز السرّي بالرسائل التي وجهها إلى الشباب، معتبراً فيها الجهاد الفريضة الماضية إلى يوم القيامة، وأنّ أول مراتبه إنكار القلب للمنكر وأعلاه القتال في سبيل الله، وبين ذلك جهاد اللسان والقلم واليد وكلمة الحق عند السلطان الجائر. وكانت نظريته الجهادية تتمحور حول نقاط رئيسية: الجهاد لحماية الدعوة، وإنشاء كتائب خاصة معنية بقضية  الجهاد.

كتابات البنا التأسيسية

تجلّى ما سبق في كتاباته التي تناقلتها أجيال الإخوان بعد مقتله، وبعض المظاهر الحركية، وأهمّها أنّه جعل المصحف والسيف شعاراً للدعوة، وجعل الجهاد في هتاف الجماعة "الله غايتنا، والرسول قدوتنا، والقرآن دستورنا، والجهاد سبيلنا، والموت في سبيل الله أسمى أمانينا"، وجعل الجهاد ركناً من أركان البيعة التي يأخذها على أتباعه، فقال في رسالة التعاليم: أريد بالجهاد الفريضة الماضية إلى يوم القيامة، والمقصود بقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "من مات ولم يَغزُ، ولم ينوِ الغزو، مات ميتة جاهلية"، وأوّل مراتبه إنكار القلب، وأعلاها القتال في سبيل الله، وبين ذلك جهاد اللسان والقلم واليد وكلمة الحق عند السلطان الجائر...، وبذلك تعرف معنى هتافك الدائم: "الجهاد سبيلنا".

كما تجد ذلك في "رسالة المؤتمر الخامس" في توضيحه معالم الطريق: "وفي الوقت الذي يكونُ فيه منكم ـ معشر الإخوان المسلمين ـ (300) كتيبة، قد جهّزت كلٌّ منها نفسَـها روحيّاً بالإيمان والعقيدة، وفكريّاً بالعلم والثقافة، وجسميّاً بالتدريب والرياضة، في هذا الوقت طالبوني بأن أخوض بكم لُجج البحار، وأقتحم بكم عنان السماء، وأغزو بكم كل جبار عنيد، فإنّي فاعلٌ، إن شاء الله".|

وقد أنشأ البنا الكتائب وأشرف بنفسه على تسليحها وتدريبها وتثقيفها، وحين يُسأل هل سيستخدم الإخوان المسلمون القوة؟ يقول: "أمّا القوة، فشعار الإسلام في كل نظمه وتشريعاته، فالقرآن الكريم ينادي في وضوح وجلاء: "وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ"، والنبي يقول: "المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف".  

وحين شرح مراحل الدعوة قال: "مرحلة التعريف بنشر الفكرة العامة بين الناس، ومرحلة التكوين باستخلاص العناصر الصالحة لحمل أعباء الجهاد وضم بعضها إلى بعض. ونظام الدعوة في هذه المرحلة صوفي بحت من الناحية الروحية، وعسكري بحت من الناحية العملية، وشعار هاتين الناحيتين "أمر وطاعة"، ومرحلة التنفيذ: وهي مرحلة جهاد لا هوادة فيه".

مركزية القوة والثورة لدى البنا

 يقول حسن البنا في رسالة المؤتمر الخامس: "أمّا القوة، فشعار الإسلام في كل نظمه وتشريعاته، فالقرآن ينادي في وضوح وجلاء "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة. بل إنّ القوة شعار المسلم حتى في الدعاء، وهو مظهر الخشوع والمسكنة، مستطرداً بقوله: "الإخوان المسلمون أعمق فكراً وأبعد نظراً من أن تستهويهم سطحية الأعمال والفكر، فلا يغوصوا في أعماقها ولا يوزنوا نتائجها، وما يقصد منها وما يراد بها، فهم يعلمون أنّ أوّل درجة من درجات القوة العقيدة والإيمان


 ويلي ذلك قوة الوحدة والاتباط، ثم بعدها قوة الساعد والسلاح، ولا يصح أن توصف جماعة بالقوة حتى تتوفر لها هذه جميعاً، فإنّها إذا استخدمت قوة الساعد وهي مفككة الأوصال مضطربة النظام أو ضعيفة العقيدة خاملة الإيمان، فسيكون مصيرها الفناء والهلاك. ثم يتساءل فيقول: لكن هل أوصى الإسلام -والقوة شعاره- باستخدام القوة في كل الظروف والأحوال، أم حدد لذلك حدوداً واشترط شروطاً ووجّه القوة توجيهاً محدوداً؟ "وهل تكون القوة أوّل علاج، أو أنّ آخر الدواء الكي؟".

وبعد هذه الأسئلة يجيب السائلين، فيقول: إنّ الثورة أعنف مظاهر القوة، ومن هنا كان نظر الإخوان المسلمين إليها أدق وأعمق، وخاصة في وطن كمصر جرب حظه في الثورات فلم يجنِ منها إلا ما تعلمون، وبعد كل هذه التقديرات أقول لهؤلاء السائلين: إنّ الإخوان سيستخدمون القوة العملية حيث لا يجدي غيرها، وهم حين يستخدمون هذه القوة يحتملون كل نتائج موقفهم هذا بكل رضا وارتياح.

ومن أجل تأصيل حركية التنظيم الموازي، عمل البنا منذ نشأة الجماعة على أن يقوم عناصره بنشر الفكرة العامة بين الناس، وجعل نظام الدعوة في هذه المرحلة عن طريق الجمعيات الإدارية، ومهمتها العمل للخير العام، ووسيلتها الوعظ والإرشاد تارة، وإقامة المنشآت النافعة تارة أخرى، إلى غير ذلك من الوسائل العملية، وكل شُعَبِ الإخوان تمثل هذه المرحلة من حياة الدعوة، ثم التكوين باستخلاص عناصر تحمل أعباء "الجهاد" وضم بعضها إلى بعض، ونظام الدعوة ـفي هذه المرحلةـ صوفي بحت من الناحية الروحية، وعسكري بحت من الناحية العملية، وشعار هاتين الناحيتين "أمر وطاعة" من غير تردد ولا مراجعة ولا شكٍّ ولا حرج، وتُمثِّلُ الكتائب الإخوانية هذه المرحلة من حياة الدعوة، وتنظمها رسالة المنهج الذي وضعه البنا نفسه، ثم التنفيذ، وهي مرحلة جهاد لا هوادة فيه، وعمل متواصل في سبيل الوصول إلى الغاية.


بناء على ما سبق أنشأ البنا عام 1940 جهازاً داخل الجماعة؛ سمّاه "النظام الخاص"، يضم إليه من أفراد الجماعة من يلتزمون بتعاليمه وتوجيهاته، ويتميزون باللياقة البدنية، والقدرة على الاحتمال، والسمع والطاعة، وكلَّف (5) بالإشراف عليه واختيار جنوده، وكان وراء تكوين هذا النظام عدة أهداف يسعى إلى تحقيقها؛ أوّلها: مقاومة الإنجليز الذين يحتلون مصر والسودان وغيرهما من بلاد العرب والمسلمين.



 وثانيها: مقاومة المشروع الصهيوني، وثالثها: حماية الدعوة من أعدائها الذين قد يحاولون اقتلاع جذورها، وإيقاف مسيرتها، وإعاقة حركتها، بقانون القوة، ورابعها: غرس روح الجهاد من أجل السعي إلى تغيير الحكم العلماني الذي برأيه لا يحكم بما أنزل الله، ولا يحتكم إلى شريعة الإسلام، عن طريق "انقلاب عسكري" تكون طلائعه من أبناء النظام الخاص .

وحول التكوين للتنظيم الموازي تحدث عدد من القيادات المنشقة في الجماعة، يقول القيادي السيد عبد الستار المليجي: سارت الأمور في العلن فترة السبعينات على طريقة الأستاذ عمر التلمساني، ونال بطريقته ثقة جميع الأوساط الدعوية كالجامعات وجميع المؤسسات الدعوية كالأزهر والجمعيات الخيرية كالجمعية الشرعية وجمعية الخلفاء الراشدين وأنصار السنّة المحمدية، وأصبح صديقاً محبباً للجميع حتى السادات، غير أنّ المتعودين على العمل السرّي لم ترق لهم طريقة التلمساني


 ومع كثرة الشباب المتدين وتهافته على كل قديم، ما كان للصياد المتربص أن تفوته الفرصة، وعادت ريمة إلى عادتها القديمة، وبدأت فكرة تكوين نظام خاص جديد قديم وبشخصياته القديمة نفسها: (مصطفى مشهور، وأحمد حسنين، ومن تبعهم من بقايا تنظيمات (65) التكفيرية)، وكنت واحداً ممّن بايعوا المرحوم الحاج مصطفى على السمع والطاعة في المنشط والمكره، ضمن التنظيم الجديد، ولكن بنية مختلفة عنهم كما تكشف فيما بعد، فقد كنت أتصور أنّه يأخذ البيعة نيابة عن المرشد المعلن عمر التلمساني، وأننا جميعاً في مركب دعوي واحد، كما أنّني في هذا العمر لم يكن لي دراية بتاريخ التنظيمات السرّية الإخوانية.

ويردف قائلاً: لم يكد عام 1985 ينصرم حتى بدأت إرهاصات القلق على أعصاب التنظيم السرّي، وبدأت طلائعهم تتقاطر على مصر بغير مبررات معقولة، ولوحظ أنّهم يأتون ويرفضون الاندماج فيما هو قائم، وبدؤوا حملة من الشائعات حول إخوانهم الباقين هنا في رحاب الوطن، فنشروا مقولة الحي أبقى من الميت، وكانت تعني أنّ العمل بالأحياء "التنظيم السري" يفضل على العمل بالنقابات والجامعات والمؤسسات العلنية، وكان الهدف هو إسقاط نقاط القوة لتنظيم التلمساني، وتقوية العمل السري تحت قيادات جديدة وافدة.

وبدأت الجماعة تتبنّى إعلامياً على صفحات مجلاتها مفهوم "الجهاد"، وهو لا يحدث في العادة دون نظام خاص وجهاز سرّي، وعبر فقه يعتمد على ضرورة إعادة الخلافة، ومقاومة الاستعمار، وتحرير المسلمين، ومقاومة الظلم.

وصاغ سيد قطب أفكاراً رئيسة فصّل فيها أفكار البنا، وتجاوز بها بعض أفكار المؤسس، وكانت كلها تنظيرات أسهمت في دعم استمرار وبقاء الجهاز السرّي العسكري للجماعة، مثل مفهوم "الإسلام ثورة وانقلاب"، وتكفير المجتمعات المسلمة "التوحيد حاكمية سياسية وقانونية"، وأنّ النظام الإسلامي الشامل لا يقبل التبعيض "نظام مطلق"، ولا يتحرك إلا في محيط هو الذي يصنعه "الطهورية والعزلة الشعورية".

ويُعتبر مبدأ "الحاكمية"، الذي لعب سيد قطب دوراً أساسياً في ترسيخه من أهم الرؤى التي تتمحور حولها المرجعية الفكرية والإيديولوجية للجماعة، وكان له التأثير الكبير على أعضائها بجميع فئاتهم، ممّن تشبّعوا بأفكاره الخطيرة الداعية إلى تحقيق الشريعة ولو بالقوة والعنف من أجل الوصول إلى الحكم.

0 Comments