فرنسا تطارد الإخوان: معركة ثقافية ضد منظمة شريرة

 

فرنسا


فرنسا تطارد "الإخوان": معركة ثقافية ضد منظمة شريرة  


ما زالت تتعالى الأصوات الداعمة لقرار الحكومة الفرنسية بإجراء تحقيق حول جماعة الإخوان المسلمين، وكان آخرها موقف نتالي جوليه، عضو مجلس الشيوخ الفرنسي، التي رأت أنّ قرار الحكومة الفرنسية مؤخراً إجراء تحقيق حول جماعة الإخوان المسلمين يمثل "نقطة تحول مهمة في تعاملها مع التأثيرات الخارجية، في وقت تتزايد فيه المخاوف من التهديد المحتمل للجماعة على القيم الأساسية للجمهورية الفرنسية المتمثلة في العلمانية والتماسك الاجتماعي".

ووصف وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانان ما يجري بأنه معركة ثقافية/ مؤسسية "غرامشية" ضد منظمة شريرة. في غضون ذلك، تحذر أصوات فرنسية وازنة من تزايد أعداد المنتمين إلى تنظيم الإخوان المسلمين في فرنسا، وما يمثله ذلك من خطر كبير على المسار الديمقراطي وأمن واستقرار البلاد، إلى جانب تأثيراته الكبيرة على التركيبة الديموغرافية مستقبلا.


وفي تقرير لها،  كشفت الكاتبة والباحثة الفرنسية هيلين دي لوزون أنّ منذ عام 2019 زاد عدد أعضاء تنظيم الإخوان المسلمين في فرنسا من 50 ألفا إلى 100 ألف عضو، نقلا عن تصريحات خبير استخباراتي فرنسي لصحيفة "لو جورنال دي ديمانش".

وقالت الباحثة الفرنسية إنّ الأدلة على تغلغل حركة الإخوان المسلمين في الحياة الفرنسية تتزايد بشكل شبه يومي. ففي غضون 10 سنوات، تضاعفت نسبة النساء المسلمات المحجبات، مما جعل من الممكن الحديث عن عملية أسلمة ثقافية “منسقة بلا شك”. والتي تم التعبير عنها في مجموعة من الأعراض منها الأهمية المتزايدة للملابس الإسلامية مثل العباءة، والمطالب الدينية في مكان العمل وفي حمامات السباحة ونمو ما يعرف بـ"التجارة الحلال".

واستشعر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مخاطر الأصوات المحذرة من الإخوان، حيث كلف، في الخامس من الشهر الجاري، اثنين من كبار موظفي الخدمة المدنية بإعداد تقرير حول الإسلام السياسي والإخوان، لتقديمه في الخريف المقبل، كما وضعت هذه المهمة تحت إشراف دبلوماسي شغل العديد من المناصب في الدول العربية

وقدمت الحكومة الفرنسية مبرراتها من وراء تلك الخطوة، في بيان صحفي صادر عن وزارة الداخلية، حيث أشارت إلى المخاوف بشأن دور الإخوان في تبني نظام فكري ديني يخرج عن مبادئ الجمهورية الفرنسية، إذ يلعب التنظيم بالفعل دوراً رئيسياً في ذلك

وحسب بيان الوزارة، فإن هذه المهمة سيقودها الدبلوماسي المتقاعد فرانسوا غوييت، الذي كان سفيرا في أكثر من دولة عربية منها الإمارات وتونس وليبيا والجزائر، والمحافظ باسكال كورتاد، ويجب أن يقوما بإعداد "جرد لتأثير الإسلام السياسي في فرنسا".وأكدت الوزارة أن "مكافحة النزعة الانفصالية تتطلب فهم هذه الظاهرة، وإدراك المؤسسة السياسية التي تمثلها".


وتحدث وزير الداخلية جيرالد دارمانان في البيان عن “سباق مع الزمن”، وعن معركة ثقافية/مؤسسية “غرامشية” ضد منظمة “شريرة”، وعن “تحد”، قائلاً إنّ "التنظيم الإخواني لا يستخدم الإرهاب، بل يستخدم أساليب أكثر ليونة، لكنه يعمل بفعالية من أجل تحويل جميع شرائح المجتمع تدريجياً إلى الصفوف الإسلامية".

ووجه دارمانان “نداء للاستيقاظ”، متهماً “أولئك الذين يتعاونون مع جماعة الإخوان المسلمين دون أن يعرفوا ذلك، بين السكان ولكن قبل كل شيء بين اللاعبين العامين”، وحتى القضاة والممثلون المنتخبون والأكاديميون، هناك الكثير ممن يشكلون نقطة انطلاق لغزو الإسلام السياسي.

الوزير أوضح أيضاً أنه يريد أن يستلهم سياسة النمسا تجاه جماعة الإخوان المسلمين. وقد أدرجت النمسا المنظمة على القائمة السوداء باعتبارها “مجموعة متطرفة مرتبطة بالجريمة ذات الدوافع الدينية”. ومنذ عام 2021، يُمنع في النمسا ارتداء أو توزيع رموز الإخوان، وهي الدولة الأوروبية الأولى التي تتخذ هذه القرارات ضد الجماعة.

ويقول المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات إن “جماعة الإخوان عملت على تكوين إمبراطورية مالية وفكرية، منذ عام 1978، بهدف تعميق وجودها وتعزيز نفوذها في المجتمع الفرنسي، كما ارتبط التنظيم بعلاقة مصالح مع عدد من الأحزاب السياسية داخل فرنسا".

ويشير في تقرير له إلى أنّ “فرنسا تضم أكثر من 250 جمعية إسلامية على كامل أراضيها، منها 51 جمعية تعمل لصالح الإخوان، بالإضافة إلى التجمع لمناهضة الإسلاموفوبيا وجمعية الإيمان والممارسة ومركز الدراسات والبحوث حول الإسلام والمعهد الأوروبي للعلوم الإنسانية ومعهد ابن سينا لتخريج الأئمة. هذه الجمعيات تمارس نشاطاً سياسياً وتعمل لصالح الجماعات المتطرفة".وتحاول هذه الجمعيات وفي مقدمتها جماعة الإخوان منذ سنوات التمدد في أوساط المسلمين الفرنسيين، من أجل إنشاء نظام خلافة لهم هناك.


وفي أحدث التعليقات المؤيدة للقرار الفرنسي، قالت نتالي جوليه، عضو مجلس الشيوخ الفرنسي:

يأتي هذا التحقيق عقب سلسلة من الإجراءات الحازمة التي اتخذتها السلطات الفرنسية، من بينها اتخاذ وزير الداخلية قراراً بطرد دعاة الكراهية، وإعلان وزير التعليم حظرَ ارتداء العباءة في المدارس. وبينما يمثّل موضوع التأثيرات الخارجية هاجساً للأوساط السياسية عشية الانتخابات الأوروبية والأمريكية، تشير هذه الإجراءات إلى وجود وعي متزايد بضرورة مواجهة الأيديولوجيات الخارجية التي تتعارض مع مبادئ الجمهورية.


وأضافت جوليه، كما أورد الموقع الإلكتروني لمركز تريندز للبحوث والاستشارات : لم يأتِ قرار إجراء التحقيق استجابة للأحداث الأخيرة فحسب، بل يمثل تتويجاً لجهود بذلتها على مدى سنوات مختلف الجهات الفاعلة؛ خاصة في مجلس الشيوخ الفرنسي، الذي دعا باستمرار إلى مزيد من اليقظة تجاه من يُنظر إليهم على أنهم “أعداء الجمهورية”. وتكليف المحافظ كورتاد والسفير غوييت، وهو خبير في هذا المجال، يشير إلى حرص الحكومة على إجراء تحقيق شامل ودقيق.يركز التحقيق على تزايد النشاطات المعادية للسامية والضعف الملحوظ لمبادئ الجمهورية في المجتمع الفرنسي. ويُنظر إلى الحرب في غزة على أنها أدت إلى تفاقم هذا الاتجاه.


أحد المخاوف الرئيسية هو الجرأة المتزايدة للشباب في تحديهم للعلمانية؛ إذ تمثل هذه التصرفات استراتيجية متعمدة تهدف إلى تقويض أسس الجمهورية. هذه الأيديولوجية الجامدة تتسلل وتنتشر تدريجيّاً وتدمر القيم المجتمعية ببطء، وهي تتبع استراتيجية تقوم على إضعاف الجمهورية عن طريق مهاجمة أسسها، وعلى رأسها نظام التعليم والعلمانية. وهي تنتشر كما تنتشر الكثير من الجسيمات الدقيقة من دون أن نراها أو نشعر بها، ولكنها تُهضم بشكل أسرع ومن دون علمنا تقريباً.

هناك حاجة إلى معالجة التهديد الذي تمثّله جماعة الإخوان المسلمين منذ أمد طويل. فما هي حالة التهديد؟ هناك منذ فترة طويلة تحذيرات متواصلة للحكومات المتعاقبة حول مخاطر التساهل والسذاجة في مواجهة هذه الأيديولوجية. وتمثل القوائم الانتخابية، والانتخابات، والنقاش حول شهادات العذرية بعض الأمثلة على كيفية تغلغل هذه الأيديولوجية في المجتمع الفرنسي. والانتشار المستمر لهذه الأيديولوجية يمثّل تهديداً للمجتمعات في فرنسا وغيرها من الدول الديمقراطية.

يُعد القانون الذي صدر مؤخراً لتأكيد حظر شهادات العذرية خطوة إيجابية، لأنه يدل على قدرة الجمهورية على مقاومة بعض الضغوط، ولكنه يشير أيضاً إلى خطورة الوضع الذي استدعى إصدار هذا القانون. وفرنسا تحتاج أيضاً إلى قانون لحماية الأطباء الذين يتعرضون للتهديد في حالة عدم موافقتهم على إصدار هذه الشهادات المهينة لكرامة المرأة.

تمثل جماعة الإخوان المسلمين خطراً حقيقيّاً، واحتواء تأثيرها هو أحد الأهداف الأساسية للتحقيق الذي يشمل الكشف عن شبكاتها المالية وتفكيكها، وضمان التعاون مع الشركاء الأوروبيين من أجل اتباع نهج موحد، والمراقبة الدقيقة لنشاطات جمع التبرعات.

ويجب أن تشمل المهمة أيضاً كبح شبكات التمويل المتمثلة في الرابطات والمؤسسات، وضمان تناغم الضوابط الأوروبية عن طريق تدقيق عمليات جمع الأموال؛ وتجدر الإشارة إلى مؤسسة مثيرة للجدل تُعرف بارتباطها بالإخوان المسلمين. وتُنفَّذ عملية “جمع الضرائب” الخاصة بها في جميع أنحاء باريس من خلال الإعلانات عن التبرعات، وهذا يسلط الضوء على إمكانية إساءة استخدام التبرعات والحاجة إلى تشديد الضوابط. ومن المسلَّم به أن هذه الأموال استُخدمت لأغراض الدعاية في أفريقيا، وأن الأموال التي تُجمع في فرنسا تُستخدم لقتال جيوشنا ميدانيّاً ونشر المشاعر المعادية لفرنسا.

وتُعدّ وسائل التواصل الاجتماعي والمنافذ الإعلامية من قبيل “اليورو فتوى” أدوات رئيسية لنشر الفكر المتطرف أيضاً. ويتولى هذا التطبيق غرس معاداة السامية والتوجهات الانفصالية مع الإفلات من العقاب. ولئن سمحت دعوى رفعها محامون بريطانيون ببعض التقييد على نشاط هذا التطبيق، فإنه يظل واحداً من أكثر التطبيقات تنزيلاً. وهناك نقص في الإجراءات الفاعلة ضد مثل تلك المنصات على الرغم من المحاولات السابقة لكبح تأثيرها. وأخيراً، ترمي جهود التوعية إلى تسليط الضوء على أنّ شبكات الإخوان المسلمين تمثّل تهديداً لفرنسا وأوروبا، ولا بد من إعطاء الأولوية لمكافحة التوجهات الانفصالية وأعداء الجمهورية.

يهدف التحقيق في نهاية المطاف إلى إعطاء الأولوية لمكافحة التوجهات الانفصالية وحماية الجمهورية. ومن الأهمية بمكان التمييز بين هذا المجهود وأي محاولة لاستهداف الإسلام نفسه. والحكومة ملتزمة بدعم حرية العبادة لجميع الأديان. ويقتصر التركيز على مئات معدودة ممن جرى تحديدهم بوصفهم يمثّلون تهديداً للأمن القومي ورفاه جميع الفرنسيين، بمن فيهم المجتمع المسلم. وتكرس وزارة الداخلية في فرنسا، أي البلد الذي يستضيف أكبر جماعة من المسلمين في أوروبا، مبالغَ ضخمة لحفظ أمن المساجد.

يمثل قرار فرنسا فتح تحقيق بشأن جماعة الإخوان المسلمين منعطفاً حاسماً في موقفها تجاه التصدي لهذا التهديد المحتمل. وتؤكد هذه الخطوة التزام الحكومة بصون المبادئ الأساسية للجمهورية والمتمثلة في العلمانية والتماسك الاجتماعي في مواجهة المخاوف المتصاعدة. ولا يُعد ذلك ردّاً على الأحداث الأخيرة فحسب، وإنما أيضاً تتويجاً لسنوات من الدعوة إلى توخي المزيد من اليقظة في مواجهة التهديدات المتصورة للوحدة الوطنية. ومن خلال مواجهة هذه القضايا على نحو مباشر، تهدف الحكومة إلى صون القيم الأساسية للجمهورية وضمان مستقبل أكثر أمناً ووحدةً لمواطنيها.

ويهدف التحقيق إلى معالجة الخطر المتصاعد للتطرف عن طريق تحديد الشبكات المالية وتفكيكها، والتعاون مع الشركاء الأوروبيين، ورصد أنشطة جمع الأموال. وعلاوة على ذلك، تؤكد الجهود المبذولة لمكافحة الفكر المتطرف الذي ينتشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها من المنصات الحاجة إلى اعتماد نهج موحد، والأهم من ذلك أنّ هذا المسعى يعطي الأولوية للأمن والوحدة الوطنية، ويدعم في الوقت نفسه حرية العبادة لجميع الأديان، مع التأكيد أنّ التركيز هو على حماية المواطنين، بمن فيهم المجتمع المسلم، ممن يمثلون تهديداً للأمن الوطني. ومع اجتياز فرنسا هذه المرحلة المعقدة، فإنها تؤكد مجدداً التزامها بحماية الجمهورية وقيمها ضد التحديات الداخلية والخارجية.

0 Comments